(35)
لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر إذ عانى من الخوف كثيراً. وزاره طيفها في هلوسة المخاوف كما تساقط أوراق الياسمين على حشائش جافة تسعى بينها الحشرات. كابد الأوهام التي تلدها الظلماء في البيت الغريب. وقال لنفسه في الظلام : "ما أنت إلا غريب في بيت الثعابين، تطاردك جريمة ويهتز قلبك بالعشق". ولو ترك وشأنه ما رغب غير السلام والدعة. وما خاف الثعابين قدر خوفه الغدر من ناحية ذلك الرجل الذي يتعالى شخيره في فراشه، فمن أدراه أن شخيره صادق؟ وما عاد يطمئن إلى ذكر شيء. حتى دعبس المدين له بحياته ستذيع حماقته السر فيثور زقلط وتبكي أمه وتندلع النيران في الحارة التعيسة. والحب الذي شده إلى هذا البيت، وإلى حجرة رفيقه مروض الثعابين، من أدراه أنه سيعيش حتى يصرح بمكنونة. هكذا لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر بعد أن عانى من الخوف كثيراً.
وفتح عينيه المثقلتين عندما نضحت النافذة المغلقة بنور الصباح. رأى البلقيطي جالساً في فراشه متقوس الظهر، يدلك بيديه المعروقتين ساقيه وتحت إبطه وابتسم في ارتياح رغم الدوخة الملمة برأسه لقلة النوم. لعن الأوهام التي تعشعش في الرأس في الظلام وتتبدد في في النور كالخفافيش. أليست أوهاماً جديرة بسوء ظن قاتل؟ أجل، إن أسرتنا المجيدة تجري في دماها الجريمة منذ القدم. وسمع البلقيطي يتثاءب بصوت مرتفع متماوج كالحية الراقصة فهاج صدره وراح يسعل طويلاً بشدة حتى خيل إليه أن وجهه سيلفظ عينيه. ولما سكت السعال تأوه الرجل من الأعماق فقال :
- صباح الخير.
وجلس على الكنبة فالتفت البلقيطي نحوه ووجهه ما زال محتقناً من السعال وقال :
- صباح الخير يا معلم جبل، يا من لم ينم من الليل إلا أقله.
- لعل وجهي متغير؟
- بل أذكر تقلبك في الظلام والتفاتات رأسك نحوي كالخائف! يا لك من ثعبان! ولكن ثعباناً غير سام وحق العينين السوداوين.
- الحق أني أرقت لتغيير مكان النوم.
فضحك البلقيطي قائلاً :
- أرقت لسبب واحد وهو أنك كنت تخافني على نفسك، قلت سقتلني ويسلبني نقودي ثم يدفني في الخلاء كما فعلت أنت بالرجل الذي قتلته.
- أنت..
- اسمع يا جبل، الخوف شديد الإيذاء، والثعبان لا يلدغ إلا عند الخوف!
فقال جبل في انهزام خفي :
- إنك تقرأ ما ليس في الصدور.
- إنك تعلم أني ما جاوزت الحق يا موظف الوقف السابق!
وترامى صوت من الداخل ينادي بقوة : " يا سيدة تعالي"
فشعشع روحه بانبساط غير متوقع. هذه الحماقة الزجالة في وكر الثعابين، التي قضت بالبراءة وجذبته إلى شجرة الآمال المورقة.
وقال البلقيطي وكأنه يعلق على نشاط شفيقة :
- النشاط يدب في بيتنا منذ الصباح الباكر، فتنطلق هاتان البنتان إلى الطريق لتعودا بالماء والمدمس لتطعما أباها العجوز ثم ترسلاه بجراب الثعابين ليلتقط لنفسه ولهما الرزق.
وحلت السكينة بقلبه، وشعر بأنه عضو في هذه الأسرة، وفاضت نفسه بالمودة، فنزع إلى فتح صدره والتسليم إلى مقاديره في عفوية لا تقاوم فقال :
- يا معلم، بالحق سأقص عليك قصتي.
فابتسم البلقيطي وتشاغل بتدليك ساقيه فعاد جبل يقول :
- إني قاتل كما قلت، ولكن لي قصة.
وقص عليه قصته. ولما فرغ قال الرجل :
- يا لهم من قوم ظالمين، أما أنت فرجل شهم ولم يخب نظري فيك.
واعتدل في جلسته باعتزاز ثم قال :
- من حقك الآن أن أبادلك صراحة بصراحة، فاعلم إني أنتسب في الأصل إلى حارة الجبلاوي.
- أنت!
- نعم، وفررت منها في صدر شبابي ضيقاً بفتواتها!
فقال جبل والدهشة لم تزايله بعد :
- هم شقاء حارتنا.
- نعم، لكن لا ننسى حارتنا رغم فتواتها، ولذلك أحببتك عندما عرفت أصلك.
- من أي حي كنت؟
- من حي حمدان مثلك.
- يا للعجب!
- لا تعجب لشيء في هذه الدنيا، لكنه تاريخ مضى من بعيد، فلا أحد يعرفني الآن ولا تمرحنة نفسها التي تربطني بها صلة قربى.
- أعرف هذه السيدة الشجاعة، ولكن من كان غريمك من الفتوات؟ زقلط؟
- لم يكن في ذلك الوقت إلا فتوة حي حقير.
- قلت هم شقاء حارتنا!
- أبصق على الماضي بكل ما فيه.
ثم بلهجة فيها إغراء :
- اشغل نفسك من هذه الساعة بمستقبلك، وها أنا أكرر لك القول بأنك تصلح حاوياً ماهراً، ولنا مجال مريح في الجنوب من هنا بعيداً عن حارتنا، وعلى أي حال ففتواتكم وأتباعهم لا يظهرون في هذا الحي. لم يكن بطبيعة الحال يدري شيئاً عن فن الحواة ولكنه رحب به باعتباره الوسيلة التي ستلصقه بهذه الأسرة فتساءل بنبرات فضحت رضاه :
- أتراني أصلح لذلك حقاً؟
فوثب الرجل إلى الأرض في سرعة بهلوانية ووقف أمامه بجسمه القصير وقد كشف طوق جلبابه عن شعر كث أبيض وقال :
- أنت موافق، لم يخب نظري في شيء قط.
ومد له يده فتصافحا ثم قال الرجل :
- أصارحك بأني أحبك أكثر من أي ثعبان عندي.
فضحك جبل في نشوة طفل، وشد على يد الرجل ليمنعه من الذهاب حتى وقف متسائلاً ثم قال باندفاع لم يجد حيلة في منعه :
- يا معلم، جبل يطلب القرب منك.
فابتسمت عينا البلقيطي المحمرتان وتساءل :
- حقاً؟
- نعم ورب السماوات.
فضحك البلقيطي ضحكة قصيرة وقال :
- كنت أتساءل متى يا ترى يفاتحني في ذلك! نعم يا جبل فلست أحمق، ولكنك الرجل الذي أعهد إليه بابنتي مطمئناً، ومن حسن الحظ أن سيدة فتاة ممتازة كما كانت المرحومة أمها!
واعترى ابتسامة الابتهاج في فم جبل ارتباك غير خاف كما يعتري أطراف الزهرة اليانعة الذبول، وخاف أن يتبدد حلمه بعد أن صار في قبضته وغمغم :
- لكن..
فقهقه البلقيطي قائلاً :
- لكنك تطلب شفيقة! أعلم هذا يا ابن والدي، أخبرتني به عيناك وحديث الصغيرة ومعاشرة الثعابين والحيات فلا تؤاخذني فهذه طريقة الحواة فيما يعقدون من اتفاقات.
تنهد جبل من صميم القلب، وشعر ببرد الطمأنينة والسلام، ووثبت بصدره مشاعر فتوة وحماس وانطلاق، حتى بيت النعيم لم يعد يبالي به، ولا الجاه المولى، ولم يعد بخافٍ ما ينتظره من كد ومرمطة، فليسدل على الماضي ستاراً لا ينضح بضوء، وليبتلع النسيان كافة المتاعب والآلام الماضية، وليبتلع فيما يبتلع حنان القلب إلى الأمومة الضائعة.
في الضحى زغردت سيدة.
وسرى النبأ في الحواري المجاورة.
ثم شهد سوق المقطم وحيه زفة جبل.
***********
(36)
قال البلقيطي بلهجة انتقاد ساخرة :
- لا يجمل بالرجل أن يركن إلى حياة الأرانب والديك! وها أنت لم تتعلم شيئاً وأوشكت نقودك أن تفرغ!
كانا يجلسان على فروة أمام باب الدار، وكان جبل يمد ساقيه على الرمال المشمسة تلوح في عينيه الغبطة والدعة فالتفت إلى حميه وقال باسماً :
- عاش أبونا أدهم ثم مات وهو يتمنى الحياة البريئة اللاهية في الحديقة الغناء!
فضحك البلقيطي ضحكة مرتفعة ونادى بأعلى صوته :
- يا شفيقة! أدركي زوجك قبل أن يقتله الكسل.
فظهرت شفيقة على عتبة الباب وهي تنقي عدساً في طبق على يدها، وقد لفت رأسها بخمار أرجواني أكد صفاء وجهها. تساءلت دون أن ترفع عينيها عن الطبق :
- ما له يا أبي؟
- يتمنى شيئين، رضاك وحياة بلا عمل.
فضحكت متسائلة في إنكار :
- وكيف يجمع بين إرضائي وقتلي جوعاً؟
فقال جبل :
- هذا سر الحاوي!
فلكزه البلقيطي في جنبه قائلاً :
- لا تستهن بأشق المهن. كيف تخفي بيضة في جيب متفرج وتستخرجها من جيب آخر في الصف الذي يقابله؟ كيف تحول البلي إلى كتاكيت؟ كيف ترقص الحية؟
فقالت شفيقة التي بدت منورة بالسعادة :
- علمه يا أبي، إنه لم يعرف من الحياة إلا الجلوس على مقعد وثير في إدارة الوقف.
فقام البلقيطي وهو يقول : " جاء وقت العمل" ثم دخل البيت. وراح جبل يتأمل زوجه بإعجاب ويقول :
- زوجة زقلط دونك في الملاحة ألف درجة لكنها تقطع النهار على أريكة ناعمة، والأصيل في الحديقة تستنشق عبير الفل وتلهو بالمياه الجارية.
فقالت بسخرية ومرارة معاً :
- هذا حال المتخمين بأرزاق الناس.
فهرش جانب رأسه متفكراً وقال :
- ولكن هناك سبيلاً إلى السعادة الشاملة.
- لا تحلم، لم تكن حالماً عندما نهضت للأخذ بيدي في السوق، ولم تكن حالماً عندما طردت عني ذباب البشر، ولذلك دخلت قلبي.
فاشتاق أن يقبلها. ولم يهون من قيمة كلامها اقتناعه بأنه يعرف أكثر منها. وقال :
- أما أنا فأحببت دون ما سبب.
- في هذه الحواري من حولنا لا يحلم إلا المجانين.
- ماذا تريدين مني يا حلوة.
- أن تكون مثل أبي.
فتساءل معاتباً :
- وهذه الحلاوة تقطر منك ما شأنها؟
فانفرجت شفتاها عن ابتسامة وأسرعت أصابع يدها بين حبات العدس.
- عندما فررت من الحارة كنت أشقى الناس جميعا، ولكن لولا ذلك ما تزوجتك!
فضحكت قائلة :
- نحن مدينان في سعادتنا لفتوات حارتك كما يدين أبي في رزقه للحيات والثعابين.
فتنهد جبل قائلاً :
- ومع ذلك فقد آمن خير من عرفته من أبنائها بأنه يوجد سبيل يكفل الرزق للناس وهم في الحدائق يغنون.
- رجعنا! ها هو أبي قادماً بجرابه، قم رعاك الله.
وجاء البلقيطي بجرابه وقام جبل ومضى الاثنان في طريقهما المعهود. وجعل البلقيطي يقول له :
- تعلم بعينيك كما تتعلم بعقلك، أنظر ماذا أفعل ولا تسألني أمام أحد من الناس، واصبر حتى أوضح لك ما يغمض عليك فهم.
ووجد جبل الحرفة شاقة حقاً ولكنه لم يستهن بها من أول الأمر ووطن نفسه على الحذق فيها مهما كلفه الجهد. والواقع أنه لم يكن أمامه من مهنه أخرى إلا أن يرضى بمهنة بائع جوال أو الفتونة أو اللصوصية وقطع الطريق. لم تكن الحواري في حيه الجديد لتختلف عن حارته في شيء عدا الوقف والقصص التي نشأت حوله. وقد رسبت في قرارة نفسه حسرة متخلفة من أحلام الماضي وذكريات المجد الغابر والآمال التي يتعذب بسببها آل حمدان كما تعذب أدهم من قبل. وكان مصمماً على النسيان بإلقاء نفسه في خضم الحياة الجديدة وتقبلها وفتح الصدر لها واللواذ بزوجه المحبة المحبوبة كلما خطر له خاطر حزن أو هوان في تجواله. وتفوق على أحزانه وذكرياته وبرع في تعليمه حتى أدهش البلقيطي نفسه. وكان يواصل التدريب في الخلاء ويعمل في النهار والليل. وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر فلا تهن له عزيمة ولا يدركه الكلال. وقد عرف الحواري والأزقة. واستأنس الثعابين والحيات. ولعب أما آلاف الصبية. وذاق حلاوة النجاح والربح. وتلقى بشرة الأبوة المقبلة.
واستلقى على ظهره يرعى النجوم حين الراحة. وسهر الليالي يتجاذب مع البلقيطي الجوزة ويقص القصص التي كانت ترويها الرباب بقهوة حمدان. وتساءل من حين إلى حين أين الجبلاوي. وإذا أشفقت شفيقة من أن يفسد عليه الماضي حياته هتف بها : إلى هؤلاء ينتسب الشيء الذي في بطنك، وآل حمدان آله، والأفندي رأس الاغتصاب كما أن زقلط رأس الإرهاب، فكيف تطيب الحياة وبها مثل أولئك؟
ويوماً كان يعرض ألاعيبه في زينهم وسط حلقة محكمة من الصغار. ولاحت منه التفاته فرأى أمامه دعبس وقد شق سبيله إلى الصف الأمامي وراح يحملق فيه بذهول. اضطرب جبل وتجنب النظر إلى وجهه ولم يعد بمستطاعه أن يواصل عمله فأنهاه رغم احتجاج الصغار. ورفع جرابه ومضى.
وما لبث أن لحق به دعبس وهو يصيح :
- جبل! أهذا أنت يا جبل!
فتوقف عن السير ملتفتاً إليه وقال :
- نعم، ماذا جاء بك يا دعبس؟
ولم يفق دعبس من دهشته وجعل يقول :
- جبل حاو! متى تعلمت هذا وأين؟
فقال جبل باستهانة :
- ليس هذا بأعجب ما يقع في هذه الدنيا.
وسار جبل والآخر يتبعه حتى بلغا سفح الجبل ثم جلسا في ظل نتوء، ولم يكن بالمكان إلا أغنام ترعى وراع جلس عارياً يفلي جلبابه. وتفرس دعبس في وجه صاحبه وقال :
- لماذا هربت يا جبل؟ كيف ساء ظنك بي حتى توقعت أن أخونك؟ الأفندي أم زقلط؟ فليحرقهم رب السماوات جميعاً كم سألوا عنك كثيراً، وكنت أسمعهم يسألون فأغرق في عرقي.
فسأله جبل باهتمام :
- خبرني كيف تعرض نفسك للانتقام بالتسلل من ربعك؟
فلوح دعبس بيده في استهانة قائلاً :
- رفع الحصار عنا من زمن، لم يعد أحد يسأل اليوم عن قدرة أو قاتله، ويقال أن هدى هانم هي التي أنقذتنا من الموت جوعاً، ولكن قضي علينا بالذل إلى الأبد، لا مقهى لنا ولا كرامة، نسعى في أعمالنا بعيداً عن حارتنا وإذا عدنا توارينا وراء الجدران، وإذا عثر على أحدنا فتوة عبث به صفعاً أو بصقاً، إن تراب حارتنا اليوم أكرم عليهم منا يا جبل..ما أسعدك في غربتك.
فقال جبل بامتعاض :
- دع سعادتي في شأنها وخبرني ألم يصب أحد بسوء؟
فقال دعبس وهو يتناول طوبة ويضرب بها الأرض :
- قتلوا منا عشرة في عهد الحصار!
- يا رب السماوات!
- ذهبوا فداء لقدرة الحقير ابن الحقيرة، ولكنهم ليسوا من أصحابنا!
فقال جبل بحنق :
- ألم يكونوا من آل حمدان يا دعبس؟
فرمش دعبش حياء وتحركت شفتاه بعذر غير مسموع فعاد جبل يقول :
- والآخرون ينعمون بالصفع والبصق.
وشعر الرجل بأنه مسئول عن الأرواح التي زهقت، وعصر قلبه الألم. ووجد ندماً دامياً عن كل لحظة سلام مرت به منذ هجرته.
ودهمه دعبس بقوله :
- لعلك الوحيد السعيد اليوم من آل حمدان.
فهتف :
- لم أكف يوماً عن التفكير فيكم.
- لكنك بعيد عن الهم والغم.
فقال بحدة :
- لم أفلت من الماضي قط.
- لا تبدد راحة بالك بلا أمل، لم يعد لنا أمل.
فردد جبل قوله الأخير ولكن في نبرات غامضة :
- لم يعد لنا أمل!
فرمقه دعبس باهتمام مستطلعاً ولكنه لم ينبس احتراماً للحزن المرسوم على وجهه. ونظر إلى الأرض فرأى خنفساء تدب مسرعة حتى اختفت تحت كومة أحجار. وكان الراعي ينفض جلبابه ليغطي جسده الذي ألهبته الشمس. وعاد جبل يقول :
- في الحق لم أكن سعيداً إلا في الظاهر.
فقال مجاملاً :
- إنك تستحق السعادة عن جدارة.
- تزوجت واتخذت لنفسي عملاً جديداً كما ترى وما برح نداء خفي يلح في إقلاق منامي.
- فليباركك الله، أين تقيم؟
لم يجبه. وبدا وكأنه يخاطب نفسه. ثم قال :
- لا تطيب الحياة وبها أمثال أولئك الأوغاد.
- صدقت، ولكن كيف التخلص منهم؟
ارتفع صوت الراعي وهو ينادي أغنامه، ويسير نحوها متأبطاً عصاه الطويلة، ثم ترامى عنه لحن غناء غير واضح. وتساءل دعبس :
- كيف أستطيع أن ألقاك؟
- سل عن بيت البلقيطي الحاوي عند سوق المقطم ولكن اكتم خبري إلى حين.
ونهض دعبس فشد على يده ومضى والآخر يتابعه بعينين محزونتين.
***********
(37)
أوشك الليل أن ينتصف. وكادت حارة الجبلاوي تغرق في الظلمة لولا أضواء وانية تتسلل من أبواب المقاهي المواربة اتقاء للبرد. ولم يلح في سماء الشتاء نجم واحد وتوارى الغلمان في الحجرات، وحتى القطط والكلاب آوت إلى الأفنية. ومن خلال الصمت الشامل انبعثت أنغام الرباب الرتيبة تردد الحكايات، أما حي حمدان فقد تلفع بظلمة خرساء. وجاء شبحان من ناحية الخلاء، فسارا تحت سور البيت الكبير، ثم مرا أمام بيت الأفندي، قاصدين حي حمدان، حتى وقفا أمام الربع الأوسط وطرق أحدهما الباب، فرن الطرق في الصمت مثل قرع الطبول. وفتح الباب عن وجه حمدان نفسه الذي بدا شاحباً على ضوء سراج بيده، ورفع السراج ليتبين وجه الطارق، وما عتم أن هتف بدهشة :
- جبل!
وتنحى عن الباب فدخل جبل حاملاً بقجة كبيرة وجراباً، وتبعته زوجه حاملة بقجة أخرى. وتعانق الرجلان. وألقى حمدان نظرة سريعة على المرأة فلمح بطنها، وقال :
- زوجتك؟ أهلاً بكما، اتبعاني على مهل.
اخترقوا دهليزاً طويلاً مسقوفاً حتى بلغوا الحوش الواسع غير المسقوف، ثم مالوا إلى السلم الضيق ورقوا فيه حتى مسكن حمدان. وأدخلت شفيقة إلى الحريم، ومضى حمدان بجبل إلى حجرة واسعة متصلة بشرفة مطلة على حوش الربع. وما لبث خبر عودة جبل أن ذاع فأقبل كثيرون من رجال حمدان على رأسهم دعبس وعتريس وضلمة وفوانيس ورضوان الشاعر وعبدون، فصافحوا جبل بحرارة، وجلسوا في الحجرة على الشلت يتطلعون إلى العائد باهتمام وحب استطلاع. وتتابعت الأسئلة على جبل فقص عليهم طرفاً من حياته الأخيرة. وتبادلوا نظرات الأسى. ورأى جبل أن أرواحهم المضعضعة تنعكس على أجسادهم المهزولة وأن الفناء يدب في الأوصال. وقصوا عليه ما يلقون من هوان فقال دعبس أنه أخبره بكل شيء في لقاء اتفق لهما منذ شهر، وأنه لذلك يعجب لما جاء به، وسأله ساخراً :
- أجئت لتدعونا للهجرة إلى مقامك الجديد؟
فقال جبل بحدة :
- لا مقام لنا إلا هنا!
وجذب الأسماع في صوته نبرة قوة حتى لاح الاستطلاع في عيني حمدان وقال :
- ولو كانوا ثعابين لما استعصى عليك ردعهم.
ودخلت تمرحنة بأقداح الشاي وحيت جبل تحية حارة، وأثنت على زوجه، وتنبأت له بأنه سينجب ذكراً ولكنها قالت مستدركة :
- لم يعد من فارق بين رجالنا ونسائنا!
ونهرها حمدان وهي تغادر الحجرة ولكن أعين الرجال عكست اقتناعاً ذليلاً بقولها، وتكاثفت سحب الأحزان المخيمة على المجلس فلم يذق أحد للشاي طعماً. وتساءل رضوان الشاعر :
- لماذا عدت يا جبل وأنت لا تألف الإهانة؟
فقال حمدان بصوت ينم عن الانتصار :
- قلت لكم مراراً أن الصبر على ما نلقى خير من التسكع بين غرباء سيكرهوننا.
فقال جبل بقوة :
- ليس الأمر كما ترى.
وهز حمدان رأسه دون أن ينبس فساد صمت حتى قال دعبس :
- يا جماعة فلنتركه ليستريح.
ولكنه أشار لهم بالبقاء وقال :
- ما جئت لأستريح ولكن لأحدثكم في شأن خطير، أخطر مما تتصورون.
وتطلعت إليه الأعين بدهشة وغمغم رضوان متمنياً الخير فيما سيسمع. أما جبل فراح يقلب في الوجوه عينيه القويتين، ثم قال :
- كان بوسعي أن أمضي عمري كله في أسرتي الجديدة دون التفكير في العودة إلى حارتنا.
وصمت ملياً، ثم عاد يقول :
- لكنه حدث منذ أيام معدودة أن شعرت برغبة في المشي وحدي رغم البرد والظلام، فخرجت إلى الخلاء، وإذا بقدمي تقودانني إلى البقعة المشرفة على حارتنا، ولم أكن دنوت منها منذ هروبي.
تجلى الاهتمام في الأعين فواصل الرجل حديثه قائلاً :
مضيت في تجوالي في ظلام دامس، فحتى النجوم توارت وراء السحب، وما أدري إلا وأنا أوشك أن أصطدم بشبح هائل، توهمته أول الأمر أحد الفتوات، ولكنه بدا لي شخصاً ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعاً، طويلاً عريضاً كأنه جبل، فامتلأت رهبة وهممت بالتراجع وإذا به يقول بصوت عجيب : " قف يا جبل" فتسمرت في مكاني وسألته وجلدي ينضح بالخوف : " من؟ من أنت؟".
وتوقف جبل عن الحديث فمالت الرؤوس إلى الأمام في اهتمام، وتساءل ضلمة :
- من حارتنا؟
ولكن عتريس قال بسرعة معترضاً :
- قال أنه ليس كمثله في حارتنا ولا في الناس جميعاً.
ولكن جبل قال :
- بل انه من حارتنا!
وتساءلوا عن هويته جميعاً فقال جبل :
قال لي بصوته العجيب : " لا تخف أنا جدك الجبلاوي!" وارتفعت صيحات الدهشة من الجميع ورموه بنظرات الارتياب.
وقال حمدان :
- إنك تهزر دون شك.
- بل أقول الحق دون زيادة ولا نقصان!
فسأله فوانيس :
- ألم تكن مسطولاً؟
فصاح جبل بغضب :
- إن السطل لم يذهب بعقلي قط!
فقال عتريس :
- له لطشات لا تعرف عزيزاً وخصوصاً الأصناف الجيدة!
فتبدى الغضب في وجه جبل كالسحاب المظلم وصاح :
- سمعته بأذني وهو يقول لي " لا تخف أنا جدك الجبلاوي".
فقال حمدان برقة ليسكن غضبه :
- لكنه لم يغادر بيته من زمن ولم يره أحد!
- لعله يخرج كل ليلة دون أن يدري أحد.
فعاد حمدان يتساءل في حذر :
- لكن أحد غيرك لم يصادفه!
- صادفته أنا!
- لا تغضب يا جبل فما قصدت التشكيك في صدقك، ولكن الوهم خداع، بالله خبرني إذا كان الرجل يستطيع الخروج من بيته فلماذا نزل عن النظارة لغيره؟ ولماذا يتركهم يعبثون بحقوق أبنائه؟!
فقال جبل مقطباً :
- هذا سره وهو به أعلم.
- إن ما قيل عن اعتزاله لكبره وعجزه أقرب إلى المعقول.
فقال دعبس :
- إننا نطخبط بين الأقاويل، دعونا نسمع القصة إذا كان لها بقية.
فقال جبل :
- قلت له : " لم أحلم أن أقابلك في هذه الحياة" فقال : " ها أنت ذا تقابلني" وحددت بصري لأتبين وجهه المرتفع في الظلام فقال لي : " لن تستطيع رؤيتي ما دام الظلام" فقلت بذهول لرؤيته محاولة رؤيتي له : " لكنك تراني في الظلام" فقال إني أرى في الظلام منذ اعتدت التجوال فيه قبل أن توجد الحارة" فقلت بإعجاب : " الحمد لرب السماوات أنك ما زلت تتمتع بصحتك" فقال : " أنت يا جبل ممن يركن إليهم، وأية ذلك أنك هجرت النعيم غضباً لأسرتك المظلومة، وما أسرتك إلا أسرتي، وهم لهم في وقفي حق يجب أن يأخذوه، ولهم كرامة يجب أن تصان، وحياة يجب أن تكون جميلة" فسألته في فورة حماس أضاءت الظلام : " وكيف السبيل إلى ذلك؟" فقال : " بالقوة تهزمون البغي، وتأخذون الحق، وتحيون الحياة الطيبة" فهتفت من أعماق قلبي : سنكون أقوياء" فقال : " وسيكون النجاح حليفك".
وترك صوت جبل وراءه صمتاً كالحلم بدوا فيه جميعاً مسحورين.
كانوا يفكرون ويتبادلون النظرات ثم يتجهون بأعينهم إلى حمدان حتى خرج عن الصمت قائلاً :
- فلنتدبر هذه الحكاية بعقولنا وقلوبنا!
فقال دعبس بقوة :
- إنها لا تبدو وهماً من أوهام السطل وكل ما تتضمنه حق.
فقال ضلمة بإيمان :
- لن تكون وهماً إلا إذا كانت حقوقنا وهماً!
فتساءل حمدان في شيء من التردد :
- ألم تسأله عما يمنعه من إجراء العدل بنفسه؟ أو عما جعله يعهد بالنظارة إلى قوم لا يحسنون القيام على حقوق الناس؟
فقال جبل بامتعاض :
- لم أسأله، ولم يكن بوسعي أن أسأله، أنت لم تلقه في الخلاء ولا الظلمة ولم تستشعر الرهبة في حضرته. ولو وقع لك ذلك ما فكرت في مناقشته الحساب ولا داخلك الشك في أمره.
فهز حمدان رأسه فيما يشبه التسليم وقال :
- هذا كلام خليق بالجبلاوي حقاً ولكن ما أخلقه بأن ينفذه بنفسه!
فصاح دعبس :
- انتظروا حتى تموتوا في هوانكم!
فتنحنح رضوان الشاعر وقال وهو ينظر بحذر في الوجوه :
- كلامه جميل ولكن فكروا فيما يجرنا إليه.
فقال حمدان بحزن :
- ذهبنا مرة نستجدي بعض حقنا فكان ما كان.
وإذا بعبدون الصغير يصيح :
- علام نخاف وليس هناك أسوأ مما نحن فيه؟!
فقال حمدان كالمعتذر :
- لست أخاف على نفسي ولكني أخاف عليكم.
فقال جبل بازدراء :
- سأذهب إلى الناظر وحدي.
فقال دعبس وهو يتزحزح مقترباً من مجلسه :
- ونحن معك لا تنسوا أن الجبلاوي وعده بالنجاح!
فقال جبل :
- سأذهب وحدي عندما أقرر الذهاب، ولكنني أريد أن أطمئن أنكم ستكونون ورائي وحدة متماسكة خليقة بمواجهة الشدة والصمود لها!
ووثب عبدون واقفاً في حماس وهتف :
- وراءك حتى الموت!
وانتقل حماس الغلام إلى دعبس وعتريس وضلمة وفوانيس. وتساءل رضوان الشاعر بشيء من المكر إن كان زوجة جبل تدري بما جاء زوجها من أجله فقص عليهم جبل كيف أنه أفضى بسره إلى البلقيطي، وكيف نصحه الرجل بتقدير العواقب، وكيف أصر على العودة إلى حارته، وكيف اختارت زوجه أن تسير معه حتى النهاية.
وعند ذاك قال حمدان بصوت أنبأ بأنه مع الآخريين :
- ومتى تذهب إلى الناظر؟
فأجاب جبل :
- عندما تنضج خطتي.
فقام حمدان وهو يقول :
- سأدبر لك مقاماً في مسكني، إنك أعز الأبناء، وهذه ليلة لها ما وراءها، ولعل الرباب ترويها غداً موصولة بقصة أدهم، هلموا نتعاهد على الخير والشر!
عند ذاك تصاعد صوت حمودة الفتوة، العائد مع الفجر، وهو يغني بلسان مخمور مترنح :
يا واد يا سكري تشرب تنجلي
وتخش الحارة تتطوح تترمي
وعاملي فنجري
وتمز بجنبري
فلم يؤخذ بصوته إلا لحظة، ثم مدوا أيديهم للتعاقد في حماس، وفي رجاء.