ayamen omr السبت مايو 18, 2013 8:10 am
2
منذ ذلك اليوم الكئيب و أدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير . وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار و توزيع أنصبة المستحقين و تقديم الحساب إلى أبيه . وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة و سياسة , فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاكسة و فظاظة . وكانت شروط الواقف سراً لا يدري به أحد سوى الأب , فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمةً لإيثاره في الوصية . و الحق لأنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه . و عاش الأخوة في وئام و انسجام بفضل مهابة الأب و عدالته . حتى إدريس – على قوته و جماله و إسرافه أحياناً في اللهو – لم يسيء قبل ذلك اليوم إلى أحد من أخوته . كان شاباً حلواً كريم المعشر حائزاً الود و الإعجاب . ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئاً من الإحساس بالفارق بينهم و بينه , ولكن أحداً منهم لم يعلن هذا ولا اشتم منه في كلمة أو إشارة أو شلوك . ولعل أدهم كان اشد إحساساً منهم بهذا الفارق , بين سمو أمهم وضاعة أمه , ولعله عانى من ذلك أسى مكتوماً و ألماً دفيناً , ولكن جو البيت المعبق بشذى الرياحين , الخاضع لقوة الأب و حكمته , لم يسمح لشعور سيء بالاستقرار في نفسه , فنشأ صافي العقل و القلب .
و قال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف :
- باركيني يا أمي , فما هذا العمل الذي عهد به إليّ إلا امتحان شديد لي و لك ..
فقالت الأم بضراعة :
- ليكن التوفيق ظلك يا بني , أنت ولد طيّب و العقبى للطيبين ..و مضى أدهم على المنظرة ترمقه العيون من السلاملك و الحديقة ومن وراء النوافذ , و جلس على مقعد ناظر الوقف و بدأ عمله . وكان عمله أخطر نشاط إنساني يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقاً و القاهرة القديمة غرباً . و اتخذ أدهم من الأمانة شعاراً , و سجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف . وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال . و سأله أبوه يوماً :
- كيف تجد العمل يا أدهم ؟
فقال ادهم بخشوع :
- ما دمت قد عهد به إليّ فهو أعظم ما في حياتي ..
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة , إذا أنه على جبروته كان يستخفّه طرب الثناء .وكان أدهم يحب مجلسه . وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب و الحب . وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي – له ولأخواته حكايات الزمان الأول , و مغامرات الفتوة و الشباب , إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوحاً بنبوته المخيف غازياً كل موضع تطأه قدماه . ولعد طرد إدريس ظل عباس و رضوان و جليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت , يأكلون و يشربون و يقامرون . أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة . كان عاشقاً للحديقة منذ درج , وكان عاشقاً للناي . ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجل وقته . فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول , و أسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة , أو استلقى تحت عريشة الياسمين , وراح يرنو إلى العصافير وما أكثر العصافير , أو يتابع اليمام وما أحلى اليمام , ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة و الهديل و التغريد وما أبدع المحاكاة , أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون وما أجمل السماء . ومرّ به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال :
ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف !
فقال أدهم باسماً :
لولا إشفاقي من غضب أبي لشكوت ..
فلنحمد نحن المولى على الفراغ !
فقال أدهم بساطة :
هنيئاً لكم ..
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام :
أتود أن تعود مثلنا ؟
خير ما تمضي الحياة في الحديقة و الناي ..
فقال رضوان بمرارة ك
كان إدريس يود أن يعمل .ز
فغض أدهم بصره وهو يقول :
لم يكن عند إدريس وقت للعمل , ولاعتبارات أخرى غضب , أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها ..
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه : " الحديقة , وسكانها المغردون , والماء , و السماء , و نفسي النشوى , هذه هي الحياة الحقة . كأنّني أجد البحث عن شيء . ما هذا الشيء ؟ الناي أحياناً يكاد يجيب . و لكن السؤال يظل بدون جواب . لو تكلمت هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين . و للنجوم الزاهرة حديث كذلك . أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام " .
ووقف أدهم يوماً ينظر على ظله الملقى على الممشى بين الورود , فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشياً بقدوم شخص من المنعطف خلفه . بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه . و التفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهّم بالتراجع عندما اكتشفت وجوده , فأشار بالوقوف فوقفت , و تفحصها ملياً , ثم سألها برقة :
من أنت ؟
فأجابت بصوت متلعثم :
أميمة ..
إنه يذكر الاسم , فهو لجارية و قريبة لأمه , وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه .
ومال إلى محادثتها أكثر فسألها :
ماذا جاء بك على الحديقة ؟
فأجابت مسبلة الجفنين :
حسبتها خالية ..
لكن ذلك محرم عليكن ..
فقالت بصوت لم يكاد يسمع :
أخطأت يا سيدي ..
و تراجعت حتى توارت وراء المنعطف , ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة , وإذا به يغمغم متأثرا " ما أملحك ! " . و شعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة . و إن الورد و الياسمين و القرنفل و العصافير و اليمام و نفسه نغمة واحدة . و قال لنفسه : " أميمة مليحة , حتى شفتاها الغليظتان مليحتان , و جميع أخوتي متزوجين عدا إدريس المتكبر , وما أشبه لونها بلوني , وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات , ولن يسخر أبي من اختياري وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي ؟ ! . " .
3
وجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض كالعبير . و حاول كثيراً أن يراجع حساب اليوم , ولكنه لم يرى في صفحة عقله إلا السمراء . ولم يكن عجيباً أن يرى أميمة اليوم لأول مرة , فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو و يعيش بفضلها و لكنه لا يراها . و استسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح : " أنا هنا , في الخلاء يا جبلاوي , ألعن الكل , اللعنة على رؤوسكم نساءً و رجالاً , وأتحدى من لم تعجبه كلماتي , سامعني يا جبلاوي ؟ ! " . وهتف أدهم : " إدريس ! " و غادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجهاً نحوه في اضطراب ظاهر , و بادره قائلاً :
إدريس سكران , رايته من النافذة مختل التوازن من السكر , أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا ؟
فقال أدهم وهو يغضي ألماً :
قلبي يتقطع أسفا يا أخي ..
وما العمل ؟ ! إن كارثة تهددنا !
ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدِث أبانا بالأمر.. ؟
فقطب رضوان قائلاً :
أبوك لا يراجَع في أمر , و حال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه ..
فغمغم أدهم في كآبة :
ما كان أغنانا عن هذه الأحزان !
نعم , النساء يبكين في الحريم , عباس و جليل معتكفان من الكدر , و أبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ..
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق :
ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئاً ؟
يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة , ولا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن , غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض , أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس ..
لماذا قصدتني إذن ؟! بين يوم و ليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق . وتنهد قائلاً :
إني بريء من كل هذا , ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكتّ ..
فقال رضوان وهو يهم بالذهاب :
لديكك من الأسباب ما يوجب عليك العمل ..!
ومضى راجعاً . و لبث أدهم وحده و أذناه ترددان هذه العبارة " لديك من الأسباب ..." نعم . إنه المتهم دون ذنب جناه . كالقلة التي تسقط على راس لأن الريح أطاحت بها . وكلما أسف أحد على إدريس لُعِنَ أدهم و اتجه ادهم نحو الباب ففتحه ومرق منه . رأى إدريس غير بعيد يترنح دائراً حول نفسه , يقلب عينين زائغتين , وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره . ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأراً , ولكن أعجزه السكر فمال نحو الأرض وملأ قبضته تراباً ورمى به أدهم فأصاب صدره و انتثر على عباءته . و ناداه أدهم برقة :
أخي ..
فزمجر إدريس وهو يترنح :
اخرس يا كلب يا ابن الكلب , لا أنت أخي ولا أبوك أبي , ولأدكنّ هذا البيت فوق رؤوسكم ..
فقال أدهم متودداً :
بل أنت أكرم هذا البيت و أنبله ..
فقهقه إدريس من فيه دون قلبه و صاح :
لماذا جئت يا ابن الجارية ؟ عد إلى أمك و أنزلها إلى بدروم الخدم ..
فقال أدهم دون أن تتغير مودته :
لا تستسلم للغضب , ولا توصد البواب في وجه الساعين لخيرك . فلّوح إدريس بيده ثائراً و صاح :
ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء , الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع , و يعبدون مذلهم , لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس , فقل لأبيك أنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه , وإنني عدت قطاع طريق كما كان , و عريبداً أثيماً معتوياً كما يكون , و سيشيرون إلّي في كل مكان أعيث فيه فساداً و يقولون : " لبن الجبلاوي " بذلك أمرغكم في التراب يا من تظنون أنفسكم سادة و أنتم لصوص ..
وتوسل أدهم قائلاً :
أخي أفِق , حاسب نفسك على كل كلمة توجب اللوم , ليس الطريق مسدوداً في وجهك إلا أنم تسده بيديك , وإني أعدك بأن يعود كل شيء طيب إلى أصله ..
فخطا إدريس نحوه بصعوبة كأن ريحاً ترجعه و قال :
بأي قوة تعدني يا ابن الجارية ؟
فقال وهو يرمقه بحذر :
بقوة الأخوة !
الأخوة ! قذفت بها في أول مرحاض صادفني ..
فقال أدهم متألماً :
ما سمعت منك من قبل إلا الجميل ..
طغيان أبيك أنطقني بالحق ..
لا أحب أنم يراك الناس على هذه الحال .
فأرسل إدريس ضحكة معربدة و صاح :
و سيرونني على أسوأ منها كل يوم , العار و الفضيحة و الجريمة ستحلّ بكم على يدي , طردني أبوك دون حياء فليتحمل العواقب ..ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحّى هذا عن موقفه دون تردد , فكاد إدريس يهوى على الأرض لولا أن استند إلى الجدار , و لبث يلهث حانقاً , وينظر في الأرض مفتشاً عن حجر , فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل . و اغرورقت عيناه من الحزن , وكان صياح إدريس ما زال صاخباً . و حانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو , فمضى نحوه وهو لا يدري و متغلباً على خوفه بحزنه . ونظر إليه الجبلاوي بعينين لا تفصحان عن شيء . وكان يقف بقامته المديدة ومنكبيه العريضين أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه . وأحنى أدهم رأسه قائلاً :
السلام عليكم ..
فتفحصه الجبلاوي بنظرة عميقة ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه :
صرِّح لما جئت من أجله ..
فقال أدهم بصوت مهموس :
أبي , إن أخي إدريس ..
فقاطعه الأب بصوت كضربة الفأس في الحجر :
لا تذكر اسمه أمامي ..
ثم وهو يمضي إلى الداخل :
اذهب إلى عملك !